قد يتساءل البعض، كيف لمن لا يؤمن بالديمقراطية التي تسند حق التشريع للشعب ويعارض النظام الجمهوري والمبدأ الرأسمالي في قاعدته الفكرية المبنية على فصل الدين عن الحياة والتشاريع والأفكار المنبثقة والمتفرعة عنه التي يتم قياسها بقاعدة الحل الوسط ، أن يخوض في الضمانات التشريعية التي قد يحققها دستور الجمهورية الثانية للناس في تونس؟
نود أن نشير في البداية بأن منهجية محاججة الخصوم بما ألزموا به أنفسهم هو أهم وأعمق المناهج القرآنية في الاستدلال وإقامة الحجة على الناس،ولعل أبلغ وأوضح ما استعمل في القرآن الكريم هو ما حصل مع سيدنا إبراهيم وقومه ، أين استعمل مناهج تفكيرهم وطرق إستدلالاتهم على الفرض الجدلي ثم قوض أفكارهم ومعتقداتهم من الأساس : مثال ذلك إستدلاله العقلي أثناء محاورته مع النمرود قائلا «فإن الله يأتي بالشمس من المشرق،فات بها من المغرب فبهت الذي كفر « وأيضا عندما هرع إليه قومه بعد أن نكل بأوثانهم فقال لهم «قال بل فعله كبيرهم هذا ، فاسألوهم إن كانوا ينطقون» «الأنبياء 63»، فسيدنا إبراهيم لا يكذب ، ولكنه انطلق من مسلماتهم بأن تلك الأوثان آلهة،ثم أقام الحجة والبرهان على بطلان زعمهم بأن أثبت عدم قدرتها على القيام بالأفعال وعجزها حتى عن النطق..ولقد اعتمد هذا المنهج الاستدلالي في المحاججة جميع علماء الإسلام المتقدمين والمتأخرين ولعل عبارات من مثل ، وهب أن الحديث قد صحّ ، أو لنفترض جدلا وغيرها من طرق الاستدلال التي تعمل على تقويض الأفكار المقابلة من داخلها بالبرهان العقلي .
بعد إغلاق هذا القوس ، نعود إلى موضوع هذا المقال الذي يبحث في سقف الضمانات التي وفرها الدستور التونسي الجديد للأمة التي أطاحت بنظامي بورقيبة وبن علي ؟
منذ الخرق القانوني المبطل لجميع المسار التأسيسي والمتمثل في امتناع كمال الجندوبي من من تقديم قائمة أعضاء التجمع المنحل للمحاكم التي كانت منتصبة للنظر في الطعون التي تقدم بها بعض المحامين لمنع رموز هذا الحزب من الترشح لعضوية التأسيسي، تتالت الخروقات للقوانين التي زعموا بأنها سترسي الجمهورية الثانية العادلة،ولقد امتطت هذه الخروقات صهوة فوبيا الإرهاب والاغتيالات والسكتات القلبية المريبة والأيادي المرتعشة للحكام وضغوطات أكثر من ثلاثون ألف إضراب وقطع الطرقات وإيقاف الانتاج والتضخيم الإعلامي للأحداث التافهة والصمت المريب لبقية القطيع حتى إزاء الانقلاب الرسمي على الشرعية الانتخابية بعزل المجلس التأسيسي واستبعاد القانون التأسيسي من الواقع وتغييره بالتوافقات المطبوخة في الغرف المظلمة وفي مكاتب السفارات «عفوا» الاستخبارات الغربية التي ترتع في البلاد .
خروقات دستورية متتالية
لقد كانت جميع المقدمات تنبأ بعودة طريقة الحكم السابقة، ولعل ترشح الدكتور محمد المنصف المرزوقي للانتخابات الرئاسية التي أجريت يوم أمس كبديل لمنع الاستئثار بالسلطة من الطرف المنتصر في الانتخابات،يقوم دليلا موضوعيا على عدم قدرة دستور البلاد على منع تغول السلطة.أما على مستوى الخروقات المتتالية لفصول هذا القانون الأساسي فهي أكثر من أن تحصى أو تعدّ :
- رفض رسالة التكليف بتكوين الحكومة التي أرسلها رئيس الجمهورية المؤقت لرئيس الحزب الفائز في الانتخابات، والتي تمكن أهل الحل والعقد المتمثل في الرباعي الراعي للحوار من إمضاءها وإبرامها واقعيا على مقاس مخالف للدستور الجديد عن طريق عملية تأويلية بهلوانية إنقلابية مخالفة لجميع قواعد التفسير والتأويل القانوني المعتمد في مدرجات كليات الحقوق.
- خرق أحكام الفصل 59 من الدستور الذي فرض أن تنتخب أول جلسة عامة لمجلس نواب الشعب رئيسا لها وذلك بعدم ختم الجلسة في اليوم المقرر لها والإبقاء عليها في حالة انعقاد ليقع توزيع الأدوار خلف الغرف المظلمة،ثم يقوم النواب بالمصادقة على هذه القرارات بحسب التعليمات بالشكل الذي يؤكد على أن الجمهورية الثانية التي امتد مخاضها على مدار ثلاث سنوات ستكون سليلة جمهورية الموز الأولى التي كانت تطبخ القرارات فيها من العائلات الحاكمة،لتحل محلها الأحزاب الحاكمة إلى حين..
- شعار الجمهورية الذي وقعت إضافة عبارة كرامة إليه مازال لم يقع تغييره بعد أشهر من دخول هذا الدستور حيّز التنفيذ.
حكام لا أساس قانوني لوجودهم ولا لأعمالهم
- انتهت شرعية رئيس الدولة المؤقت والحكومة التي كانا يستمدانها من المجلس التأسيسي بعد أن انتهت مهامه بتنصيب مجلس نواب الشعب،ومع ذلك مازالت الحكومة المقالة بمقتضى القانون تتخذ القرارات وتبرم العقود، ولعل مواصلتها إصدار القرارات بالرغم من عدم الاختصاص،بل وحتى قبل سن القوانين الرسمية المتعلقة بها،من ذلك إنشاء القطب القضائي والأمني ووكالة للإستخبارات وغير ذلك من القرارات التي سيقع التصديق على قوانينها لاحقا ممن يسمون بنواب الشعب النائمين تحت قبة باردو، سيجعل جميع أعمالها تحت طائلة النقض بمجرد الطعن فيها أمام المحكمة الدستورية الموعودة ،.
- تعدّ باطلة جميع الأحكام القضائية الجزائية الصادرة ضد المتهمين الذين وقع تتبعهم بعد دخول الدستور حيز التنفيذ لأن الدستور اقتضى أن يقع بحث كل مشتبه فيه لدى الباحث الإبتدائي بحضور محام، ومن هنا فكل المحكومين والموقوفين بالسجون في تونس هم مسجونين بدون وجه حق بسبب عدم مراعاة مصلحتهم الشرعية ولا الإجراءات الأساسية التي تهم النظام العام.
وأخيرا ولأن المجال لا يسمح بمواصلة سرد المخالفات القانونية فإن أي رجل قانون يدرك بأن دستور ما يسمى بالجمهورية الثانية قد وضع ليقع خرقه والإستعاضة عنه بالتوافقات التي يبرمها المستولون على سلطة الشعب من منظمات وأحزاب وصلت إلى الحكم بثلث الجسم الانتخابي للبلاد، وعلى هذا، فماذا سيقول أساتذة القانون الدستوري للطلبة عن التجربة التونسية، وهل سيقع إدخال عبارات الديمقراطية المسلحة والاغتيال السياسي وتعطيل تطبيق الدسياتير والاستعاضة عنها بالتوافقات والحوار الوطني في مناهج بحث هذه المادة الدراسية؟،وهل سيحتل الجزء الثاني الملحق بدروس القانون الدستوري والمتمثل في دراسة المنظمات السياسية ليصبح هو الأصل ويتحول درس القانون الدستوري هو الفرع ومجرد عنوان تاريخي لدروس طالما تشدق بها فقهاء القانون العام وافتخروا بها على الشعوب المغلوبة؟ أم سيصنفونها ضمن جمهوريات الموز التي صنعها الاستعمار ليركع بها الشعوب؟.
إن المشكلة ليست في القوانين ، هكذا أعلنها حزب التحرير غير مرة،بل في ماهية القانون الذي سيطبق، فلن يسجل واقعيا أي فرق بين القانون الدستوري لسنة 1959 أو القانون الدستوري الذي طبقه بن علي في فترة حكمه أو بينهما وبين دستور الجمهورية الثانية، لأن المسألة متعلقة بمدى انصياع والتزام جميع الأطراف –حاكما ومحكوما- بهذه القاعدة القانونية أو تلك ، فما دامت هذه القواعد القانونية غير صادرة من الخالق السيد «ألا له الخلق والأمر « ، فإنها لا ولن تعني الأمة الإسلامية في شيء عند تغييرها أو خرقها وتطويعها لأهواء الحكام ، ولذلك فستظل محل خرق دائم من الحكام ومن الناس ولن تشكل أية ضمانة على استقرار الناس المادي والنفسي لأنها غير مقبولة منهم ولا تنطبق على مشاكلهم الحقيقية في الواقع المعيش .
عماد الديــــــــــــن حــــــــــــــدّوق
0 التعليقات:
إرسال تعليق